سورة الواقعة - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الواقعة)


        


{إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ} جملة شرطية وجوابها.
ووقوع الواقعة، مجيئها، وحدوثها، والواقعة، القيامة، وسميت وسميت واقعة لأنها تقع فجأة على غير انتظار.. وكلّ شيء يحمل نذر الشّرّ يعبّر عن مجيئه بالوقوع، كأنه يسقط على الناس من فوق، فلا يملكون له دفعا، كقوله تعالى: {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا} [85: النمل] وقوله سبحانه: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ} [134: الأعراف] وقوله جل شأنه: {وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} [82: النمل].
ووقوع يوم القيامة إيذان بدخول الناس في تجربة قاسية. وفى امتحان عسر.. كما يقول سبحانه: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [2: الحج].
وقوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ} هو جواب الشرط: {إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ} أي أنه إذا وقعت الواقعة، فليس هناك من يكذّب بها من هؤلاء الذين كانوا ينكرون البعث والقيامة ويكذبون من يحدثهم عنه، لأنهم يكونون حينئذ أمام واقع مشهود، لا سبيل إلى إنكاره والمكابرة فيه.
قوله تعالى: {خافِضَةٌ رافِعَةٌ}.
أي هى خافضة ورافعة لأقدار الناس ومنازلهم، حيث ينزل كل إنسان منزله في هذا اليوم.. فريق في الجنة، وفريق في السعير.
قوله تعالى: {إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً}.
هذه الآيات، هى بيان لما يقع في هذا اليوم من أحداث، وكأنها جواب عن سؤال هو: متى تقع الواقعة؟ فجاء الجواب لا لبيان وقتها، وإنما لبيان الأهوال التي تطلع على الناس منها، فذلك هو المهمّ في هذا الأمر، وهو الذي ينبغى الالتفات إليه، والإعداد له، والعمل على النجاة منه.. أما الوقت الذي تقع فيه الواقعة، فليس بالأمر المهمّ، بعد أن تأكد أن وقوعها آت لا شكّ فيه. وإنما المهم هو الاستعداد للقاء هذا اليوم، الذي لا مفر منه.
ففى هذا اليوم ترجّ الأرض رجّا، أي تضطرب اضطرابا شديدا لما يجرى عليها من أحداث، حيث تندكّ الجبال، وتخر متداعية، متناثرة، فلا يبقى منها حجر على حجر، بل إن هذه الأحجار تتحول إلى ذرات تذروها الرياح كأنها العهن المنفوش.
فقوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا} أي طحنت طحنا.
وقوله تعالى {فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا} أي صارت ذرات منتثرة في الفضاء، كالغبار المتطاير مع الرياح.
هذا، وقد قلنا في أكثر من موضع إن هذا التبدل الذي يبدو من عوالم الوجود وكائناته، إنما هو لتبدّل موقف الإنسان من هذه العوالم، ولما تحدث من اختلاف بعيد بين معطيات جوارحه في الدنيا، ومعطياتها في الآخرة، حيث تنكشف له حقائق الموجودات.. إنّ الإنسان في هذه الدنيا يرى من الأمور ظواهرها، وظلالها، ولكنه في الآخرة يرى صميمها وحقيقتها.
فرجّ الأرض رجّا، هو ما تراه العين يوم القيامة، من وضع الأرض، حيث تبدو على حقيقتها، كرة معلقة في الفضاء، تجرى في سرعة عظيمة، أشبه بالبالونة بين يدى الريح.
وبثّ الجبال بثّا، حتى تكون كالهباء المنبث، المنتشر، هو ما تراه العين من الجبال. على مدى بعيد منها، حيث تبدو الجبال، وكأنها في صغرها الهباء المبثوث.
وقوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً} إشارة إلى ما يكون عليه الناس يومئذ، وهو أنهم يتناثرون، ويتفرقون فرقا ثلاثا، كل فرقة تجتمع إلى بعضها أزواجا، جن وإنس، أو ذكر وأنثى.
قوله تعالى: {فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}.
هو بيان للأزواج الثلاثة التي يضمها المحشر يومئذ من عالمى الجن والإنس، أو من ذكور الناس وإناثهم.
فأصحاب اليمين في جانب، وأصحاب الشمال في جانب، والسابقون في مكان فوق هؤلاء وأولئك جميعا.
وفى قوله تعالى: {ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ}.
استفهام يراد به إلفات الأبصار إلى أصحاب الميمنة، والإشارة إلى مكانهم الذي ينعمون هم فيه، وما يظلهم هناك من أمن وسكينة.
وفى قوله تعالى: {ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ} استفهام يراد به كذلك إلفات الأبصار إلى أصحاب المشئمة، والإشارة إلى مكان هؤلاء المناكيد، وما يغشاهم فيه من همّ وبلاء.
والميمنة، من اليمن، والبركة.
والمشئمة، من الشؤم، وسوء الحال.
والسابقون، هم أهل السابقة إلى الإيمان في كل أمة، ممن سبقوا إلى الإيمان باللّه، والاستجابة لرسل اللّه.. فهؤلاء في مكان مكين عند اللّه، لا يكاد يلحقهم فيه أحد ممن يجىء بعدهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا، وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى}! (10: الحديد) وفى تكرار السابقين في قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}.
إشارة إلى هذا المقام المكين الذي لهم عند ربهم، وأنهم في هذا المقام، لا يتحولون عنه، وهو مقام السبق أبدا.
فالسابقون الأولى مبتدأ، والسابقون الثانية خبر، أي السابقون هم السابقون دائما أبدا.
وفى تعريف طرفى الجملة- المبتدأ والخبر- ما يفيد القصر.. أي قصر السبق عليهم وحدهم، وأنهم كما سبقوا إلى الإيمان باللّه في الدنيا، سبقوا إلى اللّه سبحانه في الآخرة، وكانوا أول من ينزل ساحة فضله ورضوانه.
قوله تعالى: {أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} إشارة إلى هؤلاء السابقين، وإلى هذا المقام الكريم الذي أحلهم اللّه سبحانه وتعالى فيه يوم القيامة، وأنهم هم أهل القرب من اللّه سبحانه.
وقوله تعالى: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ} هو بيان للحال التي يكون عليها هؤلاء السابقون المقربون.. فهم في جنات النعيم، على سرر {موضونة} أي مطرزة، ومكللة.
وهم على هذه السرر في حال من الطمأنينة، والأمن، والرضوان، حيث يتكئون على هذه والسّرر اتكاء استرواح واسترخاء، يقابل بعضهم بعضا، وينظر بعضهم إلى بعض، فيرى كل منهم في وجه أصحابه نضرة النعيم، فيزداد نعيما ورضوانا، بهذا النعيم، وذلك الرضوان، الذي يراه وقد فاض على كل من حوله.
وقوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} إشارة إلى أن أهل السبق هؤلاء، الذين ينعمون بهذا النعيم، هم {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ}.
والثلة: الجماعة الكثيرة من الناس، وهم أولئك الذين سبقوا إلى الإيمان من كل أمة، فكانوا بهذا أشبه بالأعلام المنصوبة، يقتدى الناس بهم، ويأخذون طريقهم.. فهم الذين ارتادوا لأقوامهم الطريق إلى الإيمان، واحتملوا مع الرسل سفه السفهاء، وجهل الجاهلين من أقوامهم.. فكان لهم بهذا فضل لا يشاركهم فيه. إلا أفراد قليلون ممن جاءوا بعدهم.. ولهذا جاء قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} مبينا أن من يلحق بهم من بعدهم هم قلة بالنسبة إليهم.. إذ كان ذلك المقام لا ينال إلا في صحبة الرسل. أو من تبلغ به تقواه، ومجاهدته أن يكون مجدّدا لدعوة الرسول، متابعا لشريعته، خطوة خطوة.
قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} أي يمر عليهم، وهم في متكئهم هذا- {وِلْدانٌ}، أي غلمان {مخلدون} أي خالدون في هذا الشباب الدائم، الذي لا يتحول أبدا.. فهم مخلدون في حالهم تلك، كما يخلد أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار.. أو أنهم مخلدون، أي تزين آذانهم بقروط من كريم المعادن، ونفيس الجواهر.
والأكواب: جمع كوب، وهو ما كان من الآنية بغير عروة.
والأباريق: جمع إبريق، وهو ما كان ذا عروة يمسك به منها.
والكأس: الإناء الذي يشرب فيه الخمر، ولا يسمى كأسا إلا إذا كان فيه الشراب.
والمعنى أن هؤلاء الولدان المخالدين الذين يلبسون ثوب الصبا أبدا، والذين تزين آذانهم بالقروط، دلالا وتنعما- يطوفون على هؤلاء المقربين بأكواب، وأباريق، وكئوس من معين، أي من عيون جارية من الخمر.
وفى جمع الأكواب، والأباريق، وإفراد الكئوس- إشارة إلى أن الأكواب والأباريق، هى التي تحمل الشراب لأهل المجلس، فإذا انتهى الولدان إليهم ملئوا لكل كأسه الذي يشرب منه، ولم يجيئوا إليهم بها مملوءة جميعها مرة واحدة.. ومثل هذا قوله تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا} [17: الإنسان] وقوله سبحانه: {يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ} [23: الطور].
قوله تعالى: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ} أي لا يصيبهم من شرب هذه الخمر ما يصيب شاربى خمر الدنيا من صداع، إذا جاوز الشارب قدرا معينا منها.. فهذه الخمر التي تقدّم لهؤلاء السابقين المقربين، لا يصيبهم منها هذا الصداع مهما شربوا منها، ومهما علّوا ونهلوا.
وقد ضمّن {يصدّعون} معنى الفعل {يصرفون} من غير أن يزايله المعنى الأصلى الذي له، وهو الصداع.. والمعنى أنهم لا يصرفون عن هذه الخمر بسبب صداع يصيبهم منها.. وهذا إعجاز من إعجاز النظم القرآنى.
وقوله تعالى: {وَلا يُنْزِفُونَ} أي لا يستهلكون لذتهم فيها يشرب ما يشربون منها، كما يحدث ذلك لشارب خمر الدنيا.. حيث تذهب لذة مدمنها بعد قدر محدود منها، بل إن لذتهم باقية أبدا، وإن ظلوا في شرب دائم لا ينقطع.
وهذا هو بعض الفرق بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة. فإن نعيم الدنيا- أو ما يسمى نعيما- إذا ناله المريء وأخذ منه حاجته، زهد فيه، وأصبح أىّ قدر يناله منه بعد هذا، مبعثا للألم، بل وضربا من العذاب.. أما نعيم الجنة، فإن لذته لا تنفد أبدا، ولا تنقطع شهوة المتصل به على امتداد الأزمان والآباد.. بل إنه كلما ازداد تناولا للشىء تجددت له لذات جديدة معه.
قوله تعالى: {وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ}.
أي ويطوف عليهم الولدان المخلدون كذلك بفاكهة كثيرة مختلفة، يتخيرون منها ما يشاءون.
قوله تعالى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}.
أي ويطوف عليهم الولدان بأنواع من لحوم الطير، مما تشتهيه أنفسهم وتطلبه.
قوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ}.
أي وتقبل عليهم، وتدعوهم إليهن {حور عين}.
والحور جمع حوراء، وهى التي في عينيها حور، وهو سواد في جفن العين يزيدها جمالا وفتنة.
والعين: جمع عيناء، وهى واسعة العينين، في جمال باهر، وسحر آسر.
وقوله تعالى: {كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ}.
أي متشابهات في حسنهن، وكمالهن، حتى لكأنهن حبات اللؤلؤ المصون، الذي لم يتغير لونه بالتعرض للشمس أو الهواء.
قوله تعالى: {جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
أي أن كل هذا النعيم الذي يساق إلى هؤلاء المقربين، إنما هو جزاء لما كانوا يعملون في دنياهم من أعمال قائمة على ميزان الحق، والعدل، والإحسان.
قوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً}.
أي وفى هذا المجلس الكريم، الذي يضم أهل السبق والإحسان، والذي لا ينظرون فيه إلا وجوها مشرقة بنضرة النعيم، ولا يرد عليهم فيها إلا ولدان مخلدون يقومون على خدمتهم، وإلا حور عين مهيئين لهم- في هذا المجلس الكريم، لا يسمع أهله لاغية، ولا سخفا من لغو القول وهزله، وإنما يسمعون قولا كريما، هو {سلام}، سلام، من ربهم، أو من الملائكة الذين {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ} أو مما يلقى به بعضهم بعضا من تحية كلها سلام في سلام.
فالاستثناء في قوله تعالى: {إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً} هو استثناء منقطع.
أو هو استثناء متصل يحمل معنى بلاغيا، هو تأكيد المدح بما يشبه الذم.
أي أنه إذا كان هناك من لغو أو تأثيم يسمعه أهل هذا المجلس الكريم، فهو هذا القول الذي يقال لهم في هذا المقام، وهو: سلام، سلام.. فإذا كان هذا هو اللغو والتأثيم، فكيف بما لا لغو فيه ولا تأثيم؟ وهذا غاية في تنزيه مجلسهم، وحفظ أسماعهم من أن يطوف بها شيء من اللغو أبدا.


{وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)}.
التفسير:
فى هذه الآيات عرض لحال الفريق الثاني، من أهل المحشر، وهم أصحاب اليمين، الذين ينزلون الدرجة الثانية من الجنة، بعد أن ظفر السابقون بالمنزلة الأولى منها.
وسمّوا أصحاب اليمين، لأنهم أوتوا كتبهم بأيمانهم، وكان هذا من أول البشريات لهم في الآخرة، كما يقول سبحانه: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً} [7- 9: الانشقاق].
فهؤلاء، يحاسبون حسابا يسيرا.. أما السابقون المقربون، فيدخلون الجنة بغير حساب.. ومن هنا كان هذا التفاوت بين الفريقين في منازلهم من الجنة.
وهؤلاء- أي أصحاب اليمين- {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ}.
والسدر، هو شجر النبق، والمخضود الذي لا شوك فيه.. {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ}.
والطلح، هو الموز، والمنضود: المنتظم في حبات، أشبه بالعقود.. {وَماءٍ مَسْكُوبٍ} أي ماء يجرى بلا حواجز ولا أودية، بل يسيح متحررا من كل قيد.. ومن هذا المعنى سميت بعض الخيل باسم: سكاب.
{وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} أي أنهم يجدون بين أيديهم فاكهة كثيرة، لا تنقطع في أي زمن، ولا تمنع عنهم عند أي طلب واستدعاء.. {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} أي عالية.
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً لِأَصْحابِ الْيَمِينِ}.
أي ومما يجدء أهل اليمين بين أيديهم- هؤلاء الحوريات، اللائي أنشأهن اللّه إنشاء، من غير ولادة، فجعلهن أبكارا، لا يلدن، ولا يحضن، حتى لكأنهن فتياتلم يبلغن مبلغ النساء، وإن كن ناضجات، مكتملات الخلق.
وقوله تعالى: {عربا} أي راغبات في أزواجهن، محببات إليهن.
وفى هذا احتراز من أن يقع في التصور أنهن صغيرات، غير ناضجات لا يستجبن للرجال، مما يمكن أن يوحى به قوله تعالى: {فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً}.
والعرب: جمع عروب.
وقوله تعالى: {أترابا} جمع ترب- وهن المتماثلات حسنا، وجمالا، وشبابا.
وقوله تعالى: {لِأَصْحابِ الْيَمِينِ} متعلق بقوله تعالى: {إنا أنشأناهن إنشاء} الآيات أي أنشأناهن على تلك الصفة لأصحاب اليمين، ينعمون بهن، ويأنسون إليهن.
والضمير في قوله تعالى: {أنشأناهن} يعود إلى ملحظ مفهوم من قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} حيث أنه مما يكمل به نعيم هذه الفرش المرفوعة أن يكون فيها ما يرضى حاجة الرجال من النساء.. فهذه الفرش المرفوعة، ليست فرشا خالية موحشة، وإنما هى مأنوسة بالنساء.. أما هؤلاء النساء فقد أنشأهن اللّه إنشاء من غير ولادة، فجعلهن أبكارا، عربا أترابا.
وقوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ}.
أي أن أصحاب اليمين هؤلاء، هم جماعة من الأولين، وجماعة من الآخرين.. وهذا يعنى أنه ليس كل الأولين الذي آمنوا بالرسل، وشهدوا الحياة معهم، على سواء في منزلتهم.. بل منهم السابقون، ومنهم أصحاب اليمين.
هذا، ويلاحظ أن هذه الجنة، ليست على تلك الصفة التي عليها جنة السابقين، فهناك، سرر موضونة، مطرزة، وهنا فرش مرفوعة.
وهناك اتكاء واسترخاء على هذه السرر من غير تكلف وطلب، وهنا لا اتكاء ولا استرخاء على تلك الفرش وإن كان اتكاء واسترخاء فهو يطلب واستدعاء.
وهناك، ولدان مخلدون يطوفون على أهل المجلس بأكواب وأباريق وكأس من معين.
وهنا ماء مسكوب! وهناك خمر تدار في كئوس، لا يصدع شاربوها، ولا تنفد لذتهم منها.
وهنا.. لا أكواب ولا أباريق، ولا كئوس، ولا خمر! وإن كان ذلك كله يجىء عند طلبه، واستدعائه.
وهناك فاكهة عتيدة حاضرة يتخيرون منها ما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون، وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون.
وهنا سدر مخضود، وطلح منضود، وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، وفتيات أبكار، عرب أتراب!.
ويسأل سائل: أهذه جنة ينعم فيها أهلها؟ وكيف يحجز عن أصحاب الجنة شيء من النعيم. ثم تكون مع هذا دار نعيم، ولم تسد فيها مطالب النفس؟.
والجواب على هذا ما أشرنا إليه من قبل في سورة الرحمن ونقول هنا، إن كلا من أهل النعيم وأهل الجحيم، ينزل منزله من النعيم أو الجحيم.
وأنه كما انقسم أهل النعيم إلى فريقين.. هما السابقون، وأصحاب اليمين، كذلك ينقسم أصحاب الجحيم إلى منازل، وكل منزلة إلى فرق.
ولا شك أن في كل منزل من منازل النعيم ألوانا، وصورا من النعيم ليست في غيره، وأن أهل كل منزلة لهم نعيمهم، كما أن لكل واحد في كل منزل له نعيمه، دون أن يشعر أىّ من أصحاب النعيم في أية منزلة ينزلها أنه في حاجة إلى نعيم فوق النعيم الذي هو فيه، إذ كانت طاقته لتقبّل النعيم، مقدورة بقدر منزلته عند اللّه.
فالسابقون مثلا، قد جعل اللّه لهم من الطاقات على تقبّل ألوان وصور من النعيم ليست لغيرهم من أهل الجنة.. كما أن هؤلاء السابقين ليسوا على درجة واحدة في تقبّلهم لصور هذا النعيم وألوانه.
ولنضرب لهذا مثلا من الحياة الدنيا.
هناك مائدة حافلة بألوان الطعام، قد حشد فيها كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وقد دعى إليها عشرات من الناس، يتناولون منها ما يشاءون.
هنا تختلف أحوالهم على هذه المائدة، فمن بين هؤلاء من فتحت شهيته لكل ما على المائدة، من ألوان الطعام، يظل يغدو ويروح، بين قديد وشواء، وحامض وحلو، لا يرفع يده عن طعام إلا ليمدها إلى طعام.. وهكذا يظل في خضم وقضم ساعات وساعات.. هذا على حين أن هناك كثيرين منهم من يجتزىء من هذه المائدة بلقمة هنا، ولقمة هناك، ثم إذا به وقد رفع يده عن كل ما على المائدة، وقطع شهوته عن كل ما يشتهى منها.
وكلا الرجلين، قد أخذ حاجته، واستوفى حظه، ولم يبق له شيء يطلبه من هذه المائدة.. ومع هذا، فإن استمتاع الأول بهذا الطعام هو أضعاف لذة صاحبه، حجما، وعمقا.. دون أن يشعر أىّ منهما أنه في حاجة إلى مزيد!.
هذا، في لذات الدنيا، ونعيمها، وهى- كما قلنا- لذات تنقطع عند أخذ المرء حاجته منها، ثم تتحول إلى آلام إذا هو جاوز بها هذا الحد.. أما لذات النعيم في الآخرة، فهى لذات لا تنقطع أبدا، ولا يملّها المتصل بها مادام آخذا منها.. ولكن كلّ يأخذ بقدر ما تتسع له طاقته التي تتناسب مع منزلته.
وعلى هذا، فإن أهل الجنة جميعا في نعيم مقيم، وفى لذة دائمة مع هذا النعيم.. ولكن كلّ له من النعيم ما يشتهيه، وله من الاشتهاء ما يناسبه..!
فهم في جنة واحدة، ولكل منهم في هذه الجنة جنته، وما يشتهيه.. أشبه شيء بما في الغابة من مختلف الأحياء التي تعيش فيها.. بعضها يأكل من ورقها، وبعضها يأكل من ثمرها، وبعضها يقتات من أعشابها.. وبعضها يتنقل بين أفنانها، وبعضها يأوى إلى أجحارها.. وكلها هانىء بحياته، سعيد بعيشه مع الطبيعة التي لبسته.
وكذلك الشأن في أصحاب النار.. تتسع آلامهم وتضيق، كل حسب طبيعته التي يكون عليها، والتي هى صورة من عمله!.


{وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)}.
التفسير:
قوله تعالى {وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ} في هذه الآيات بيان لحال أصحاب المشئمة، وهم الزوج الثالث من أزواج الناس يوم القيامة.
وأصحاب الشمال- هؤلاء- هم الذين أوتوا كتبهم بشمائلهم، إذ كانت هذه الكتب تحمل إليهم الشؤم، وسوء المصير، فلا يجدون لأيمانهم التي اعتادوا أن يأخذوا ويعطوا بها، محلّا للعمل هنا، وتناول هذا المكروه بها..!
أما منزلهم الذي ينزلونه- عافانا اللّه منه- فهو هذا المنزل الجهنمىّ، الذي يساق إليهم فيه العذاب ألوانا وطعوما، كما يساق النعيم إلى أصحاب الجنة ألوانا وطعوما.
إنهم {فى سموم} أي في هبوب متلهب، ترمى به النار إليهم، وتلفح به وجوههم وأبدانهم، وفى {حميم} وهو ما يسيل من عرقهم وصديدهم، فيجرى من تحتهم، كما تجرى الأنهار تحت أصحاب الجنة.
وهم في {ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ} أي هم يدخلون تحت ظلّ من سحاب هذا السموم، الذي ينعقد فوق رءوسهم.. وأنه إذا كان ظلّ أهل الجنة باردا كريما، لطيفا.. فإن هذا الظلّ ليس باردا، ولا كريما، وإنما هو لهيب يشوى الوجوه، ويهرأ الأجسام.
أما الذي أنزلهم هذا المنزل المشئوم، وألقى بهم في هذا البلاء العظيم، فهو ضلالهم عن الحق، وبعدهم عن اللّه، وكفرهم بلقائه، وتكذيبهم رسله.
{إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ} أي منعّمين في دنياهم، مما أفاض اللّه سبحانه وتعالى عليهم من نعم، وكان من حق هذه النعم أن تفتح لهم طريقا إلى اللّه، فيحمدوا له ويشكروه، ولكنهم بطروا، وأشروا واستكبروا في الأرض، وعتوا عن أمر ربهم، وصدّوا عن سبيله.
{وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} الحنث العظيم: الذنب الكبير، أو اليمين الفاجرة.
أي أنهم كانوا مصرين ومقيمين على ما يأتون من كبائر الإثم والفواحش، فلا يراجعون أنفسهم، ولا ينظرون إلى ما يفيض بين أيديهم من منكرات وآثام.
أو أنهم كانوا مقيمين على معتقدهم الفاسد في إنكار البعث، وتوكيد هذا الإنكار بالحلف عليه، كما يقول سبحانه وتعالى عنهم: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ} [38: النحل] {وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}.
أي كانوا ينكرون البعث بهذا الأسلوب الإنكارى الساخر.. فيلقى بعضهم بهذا الاستفهام المنكر المستهزئ.. {أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ؟} أيصدق هذا؟ ذلك محال! {أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ؟} وإذا صح جدلا- أن نبعث نحن بعد الموت، لقرب عهدنا، ولأن الأرض تحتفظ ببقية منا- فهل يبعث آباؤنا الأولون الذين لا أثر لهم، حتى إن عظامهم قد أبلاها البلى وأكلها التراب؟ ذلك بعيد بعيد! {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} هذا هو الجواب الذي يلقى تساؤلاتهم المنكرة تلك: {إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ، لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}.
وقد جاء الخبر مؤكدا، بمؤكدين.. إنّ ولام الابتداء في قوله تعالى {لَمَجْمُوعُونَ}.
فآباؤهم الأولون، وآباؤهم الآخرون، هم معهم، سيجمعون جميعا في مكان معلوم، وفى يوم معلوم.
وقد ضمّن اسم المفعول مجموعون معنى السوق، الذي يدل على الدفع، والقهر، وذلك دون أن يتخلى عن معناه الأصلى، وهو الجمع.
فهم مسوقون جميعا، ومجتمعون جميعا.. في مكان واحد، دون أن يشذّ، أو يحرن أحد منهم.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ}.
هو التفات إلى هؤلاء المكذبين الضالين، وهم في موقف التكذيب والضلال- التفات إليهم، ومواجهة لهم بكل ما يسوؤهم، ويلبسهم الشفاء الأبدى.
{إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ}.
وهو شجر ينبت في أصل الجحيم، طلعه كأنه رءوس الشياطين، كما يقول اللّه تعالى في وصف هذه الشجرة: {إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ}.
(65: الصافات) والشياطين خلق نارىّ، جهنمى، وأبشع ما في الشياطين رءوسها تلك النارية الجهنمية، التي يرى الرائي منها كل ما في الشيطان من هذه الصورة المنكرة التي هى له.
وإن هذه الرءوس، النارية الجهنمية، أو ما يشبهها، هى قطوف هذا الشجر الذي يطعم هؤلاء المكذبون الضالون، من ثمره! إن لهم ما يتفكهون به في دارهم تلك، كما أن لأصحاب الجنة- ما يتفكهون به من ثمار الجنة! وإنهم ليأكلون من هذا الثمر الزقّومى حتى تمتلىء بطونهم- كرها ورغما- إذ لا بد للبطون أن تمتلىء وتشبع! وفى عود الضمير مؤنثا على الشجر، مع أنه مذكر لفظا، إشارة إلى أنه أشبه بشجرة واحدة في طبيعتها، وفى شؤم الثمر الذي يخرج منها.. فكأنهم يأكلون جميعا من شجرة واحدة.
{فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ}.
ومع كل طعام شراب!! وشراب هذا الطعام الجهنمى، جهنمى مثله، هو هذا الحميم، وهو القيح والصديد الذي يسيل من أجسامهم التي تشوى في نار جهنم، فيسيل منها هذا السائل فائرا يغلى.
فالضمير في {عليه} يعود إلى هذا الطعام، أو هذا الأكل، الذي دلّ عليه قوله تعالى: {لَآكِلُونَ}.
{فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ}.
أي إن هذا الشراب الجهنمى، يقبل عليه الذين أكلوا من هذا الطعام الزقومى، يقبلون عليه في سعار مجنون، أشبه بالإبل اللهيم، أي أي العطاش، التي حبست عن الماء أياما، فإذا وردت عليه عبّت منه في نهم شديد، لتنقع غلّتها، وتروى ظمأها.
وفى إقبال أهل هذا الطعام على هذا الشراب- إشارة إلى أن ما في بطونهم من لهيب، أشد من هذا الحميم، فهم يستشفون من داء بداء، ويستجيرون من بلاء ببلاء، ويطفئون النار بالنار!.
{هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ}.
أي هذا هو المنزل الذي ينزله يوم القيامة هؤلاء المكذبون الضالون، أصحاب الشّمال، وهذا ما يطعمون وما يشربون من، طعام وشراب، في هذا المنزل.
وفى العدول عن خطابهم إلى ضمير الغائب- إشارة إلى أنهم في حال من الهول، والبلاء، لا يعقلون معها حديثا، ولا يسمعون قولا.. فكان أن اتجه الحديث إلى من يشهدون هذا المشهد، ليكون لهم فيه عبرة ومزدجر.

1 | 2